أولا: ما بيولوجية القلق؟
هناك ما يُسمى الدماغ الحوفي أو الدماغالعاطفي داخل دماغنا وفيه لوزتان على أهبة الاستعداد للتعامل مع المتغيرات التيتشير إلى وجود خطر في محيطنا. وهذه اللوزة تستقبل مُدخلات من أماكن مختلفة منالدماغ. منها منطقة المهاد المتصلة بالحواس بمعنى أن اللوزة تستقبل إشارات منالحواس عبر منطقة المهاد. وهذا يعني أننا نشم ونسمع ونرى أمورا حولنا وتطلق اللوزةإنذارا قبل أن نعي هذا الذي شممناه وسمعناه الخ عبر مناطق الدماغ العليا. وعندماتطلق اللوزة جرس الانذار تزداد ضربات القلب والتنفس ويستعد الجسم لمواجهة الخطر.ولأن اللوزة تستقبل إشارات أيضا من الفص الجبهي ومناطق أخرى من الدماغ فإننانستطيع التفكير بعد إطلاق الإنذار وقد يؤدي هذا إلى إطفاء إشارة الإنذار. وهذاالنظام معطل عند من يعاني من اضطرابات القلق.
ثانيا: لا بد أن نضع في الاعتبار أن القلق أيضا درجات وهناك درجات منالقلق إيجابية ومفيدة للإنسان ومنها نسبُ القلق التي تساعد الانسانَ في اختباراتمدرسية وفي عالم الأعمال كما أن القلق مهم لعملية الابداع. والمهتمون بتاريخالانسان ومراحله بينوا أهمية درجات من القلق وأنواعه في تاريخ الانسان. وقد قسمالبعض اضطرابات القلق إلى 6 أقسام.
فهناك القلق العام وهو قلق يدوم 5 أشهر بدون وجود مصدر محدد له.
وهناك اضطراب الذعر ويسبب حالات خوف تدوم من دقائق عدة إلى ساعات.وأعراضه الاحساس بالاختناق والعرق والرعشة.
وهناك اضطراب توتر ما بعد المأساة أي ما بعد موقف مأساوي كالحالاتالتي تصيب المقاتلين بعد انتهاء الحرب وأعراضُه كوابيس وحذر شديد.
وهناك القلق الاجتماعي وهو الخوف من نظرة الآخرين السلبية للشخص ممايؤدي لتجنبه الاختلاط بالناس ومن أعراضه احمرار الوجه والرعشة والخوف من التقيؤوالاحساس بالرغبة في دخول دورة المياه.
وهناك الوسواس القهري فلا يستطيع صاحبه التحكم في أفكار وسلوكيات لايريدها صاحب الوسواس.
وهناك أخيرا أنواع الفوبيا أو الرهاب والخوف كالخوف من الظلام الخ
والحديث عن إيجابيات هذه الأقسام في تاريخ الإنسان أو في حياته المعاصرةيطول وللقارئ أن يتخيلها. أن يتخيل مثلا إيجابية اضطراب توتر ما بعد المأساة فيحياة الإنسان اليوم أو في تاريخه ومراحله المختلفة. وقد ألف أحدهم كتاباعنوانه" نعمة الخوف: إشارات البقاء التي تحمينا من العنف" وأشار إلىأهمية التجارب التي تحمي الانسان بعد ذلك من أنواع العنف.
"جلوريا لنهف" قصيرة بفم واسع وعينان منتفختان ولا تستطيعأن تفك دولارا ولا أن تطرح سبعة من 15 ولا تميز الشمال من اليمين ولا يمكنها كتابةاسمها بشكل صحيح ودرجة ذكائها في الاختبار المزعوم 55 إلا أنها تغني الاوبرا بـ25لغة منها الصينية.
جلوريا مصابة بمتلازمة وليام وهي اضطراب جيني يصاب به واحد في كل 7500مولود(لا أدري إن كانت إحصائية عالمية أم خاصة بالولايات المتحدة). وسببه عدم وجودجين(مورثة) في كرموسوم رقم 7 وهذا الجين مسؤول عن عمل "المرنين" وهوبروتين يعطي المرونة للخلايا وعدم وجوده يؤدي إلى متلازمة وليام وأعراضه: مشكلاتفي القلب وصعوبات هضمية وضغط دم عال وسرعة في شيخوخة الجلد وترى المصابين به يشبهأحدهم الآخر في الشكل. كما أن المصابين به يعانون من مهارات صُوَرية(من صورة)ضعيفة ولكن قدرات تحَدُث عالية. كما أن المصابين به يحملون ذاكرة قوية للوجوه وهماجتماعيون ويثقون في الآخرين وهذا قد يستغله بعضُ ضعاف النفوس. كما ان الملاحظةأثبتت أن الموسيقى هي أفضل قدراتهم وأعلاها.
ومتلازمة وليم هي ما نسميه التخلف العقلي وما اصبح الآن البعض يسميهإعاقات ذهنية أو معرفية.
في العصور الوسطى كانت تتم العناية بهم في البيوت أو الكنائس وفي عصرالنهضة الحقُوا بمؤسسات تضم الآلاف وفي سبعينيات القرن العشرين تغير ذلك النمطوحدث هذا جزئيا بسبب ما كتبه "ولف ولفنسبرجر". لقد دعا "ولف"إلى النظر إلى المتخلف كشخص يتطور وشخص لا يختلف عن الآخرين وشخص يمكنه أن ينمو ويتطورويتعلم. ونظريته هذه تقوم على مفهوم أن الناس يسلكون مسلكا "طبيعيا" إذاوُجدوا في بيئة "طبيعية".
ولعلكم تعرفون قصة الـ "آي كيو" التي بدأت بـ "ألفردبينيه" في فرنسا الذي وضع اختبارا يحدد مَن الطلاب الذي يحتاجون لخدماتتعليمية خاصة. وبينيه كان يؤمن أن الطالب يمكنه أن يطور أداءه في الاختبار بالتعلم. والألماني "وليم شترن" هو الذي اعطى الاختبار درجة أصبحت حصيلة ذكاءالشخص. وأما "هنري جدرد" الأمريكي فهو الذي أدخل اختبار بينيه ودرجةشترن إلى الولايات المتحدة وكان، على العكس من بينيه، يرى أن الـ"آي كيو"يمثل كينونة واحدة لا يمكن أن تتغير بالتدريب والتعليم. كما أنه هو الذي وضع مصطلح"مورون" أي غبي في 1910 وهي كلمة اصبحت تطلق على كل من يحصل على درجة51-70 في اختبار الذكاء ومن يحصل على 26-50 يُسمى أبله ومن يحصل على أقل من 25يُسمى معتوه. وفي عام 1916م راجع "لويس ترمن" اختبار بينيه وأصبح اسمالاختبار ستانفرد- بينيه. وما لا يعرفه الكثيرون هو أن "جدرد"و"ترمن" كانا من الذين يؤمنون بأن علينا التحكم في الانجاب لخلق جنسبشري متفوق.
لماذا يصعب على المتخلفين عقليا الاندماج في المجتمع الأمريكي وغيره؟
الجواب كما يرى المؤلف هو أنهم ينتهكون قيمة أساسية عند الأمريكيينوهي: الاعتقاد بأن الذكاء كينونة ثابتة واحدة يمكن قياسها باختبار قياس الذكاء.
هل من المعقول أن تُختزل قدرات الانسان في رقم؟
هل من العدل أن يتغير موقف الانسان من آخر لأنه حصل على أقل من 70 فيالاختبار المزعوم؟
هل الارقام والاحصائيات وبيانات التجارب هي وحدها التي تقدم الحقيقة؟
هناك من الباحثين من تحدى مفهوم الذكاء السابق ومنهم مثلا "روفنفرشتين" وهو عالم نفسٍ من إسرائيل يرفض اسم أناسٍ متخلفين ويرى أن الأنسبفكرة أداءٍ متخلف.
ويرى ان مشكلة اختبار قياس الذكاء انه يقيس ما تعلمه الفردُ ولا يقيسقدرته على التعلم بمرور الوقت وبمساعدة غيره. وهذا ما فعله مع أشخاص حصلوا علىدرجات متدنية جدا في اختبار قياس الذكاء واستطاع أن يغيرهم.
ومن الذين تحدوا مفهوم الذكاء التقليدي "هاورد جاردنر" صاحبالذكاءات المتعددة.
وعندما نفهم نظرية جاردنر يسهل علينا استيعاب التنوع العصبي. فمثلاسنرى قصور صاحب الدسلكسيا اللغوي وثراءه الصوري والاجتماعي ويمكن ان نرى قصورالتوحديين في الجانب الاجتماعي وقدراتهم المنطقية الرياضية. سنعرف ان الطفل الذي صُنفعلى انه مشتت الانتباه عنده نقاط قوة في الذكائين البيئي والصوري ومع هذا يعاني منضعف في الذكاء الشخصي وهكذا. كما أن هذه النظرية تتيح لنا رؤية ما لا يراه الآخرونفي اشخاص عندهم متلازمة برادر ولي
أي ان إطار النظرية يتيح لناالتركيز على ما يمكنهم أن يفعلوه وليس فقط على ما لا يستطيعون فعله وهذا بلا شكمنقذ لهم ومفيد للمجتمع كذلك.
في نهاية فصل "طيف الذكاءات" يذكر المؤلف توماس أرمسترونجقصتين وهذه واحدة منهما:
كتبت إملي برل كنجسلي أن الطبيب أخبرها عندما وُلد ابنها أن طفلهاسيكون متخلفا عقليا وأنه لن يجلس ولن يمشي ولن يميز بين والديه وغيرهم ولن يقرأ أويكتب وأن الحل الأمثل لمثل طفلها وضعه في مؤسسات خاصة به على الفور. والمفاجأة هيأن ابنها جاسن عندما بلغ 19 كان قد مثل في مسلسل تلفزيوني واشترك في تأليف كتاب.
ثم يتحدث المؤلف عن الفرق بينالثقافات الغربية والثقافات غير الغربية فالأولى تركز على "أنا" والثانيةعلى "نحن" ويأتي بأمثلة لعلماء إنسان ومنها مثال من "نيول" فيأوغندا لاحظته "سوزن وايت". لاحظت أن الذكاء الذهني والنجاح المالي في"نيول" ليسا ضروريين للقبول والاحترام. فشخصية الانسان كلها أو الصورةالكاملة له وليس أجزاء منها تؤخذ في الاعتبار كما يؤخذ في الحسبان الموقف الذييوجد فيه الانسان واستجابته للعالم والناس حوله.
طبعا هذا مثال واحد وهناكأمثلة كثيرة.
فما البيئة المناسبة لأصحاب الإعاقات الذهنية أو الأداء المتخلف أوالتخلف العقلي أوالمختلفين أو المتنوعين عصبيا أو اصحاب الحقوق الخاصة كما يُسمونفي ثقافة ريجيو إميليا؟
يرى المؤلف أن هناك 4 بيئات. الأولى: ورش عمل أو مشاغل تربوية يعملفيها الأفراد مع غيرهم من المعاقين في أعمال كالبناء والتصنيف وغيرهما. الثانية:بيئة داعمة أو مساعدة يعمل فيها المعاق في وظيفة عادية تحت إشراف موجه. والثالثة:وظيفة عادية بلا دعم. وهذه تشمل العناية بالحيوانات والتنظيف والمكتبات العامةكمساعدين ومُدخلي بيانات وموظفي بريد الخ. والرابعة: أعمال يبادر بها هؤلاءالأفراد وأمثلتها:" كلارا لنك" وهي مصورة محترفة وتسافر للقيام بعملهاوقد نشرت صورها في نشرات خاصة بالمعاقين. وايضا "روث توناك" وهي رسامةتستخدم الألوان المائية أوصلها عملها إلى ألمانيا للتدريب. وهناك "سوجت دسي"تعزف على الكمان والبيانو وقد سافرت داخليا وخارجيا وهناك "سوزن هارنجتن"تعمل في الاستقبال في مركز ماسشوستس للتخلف العقلي وشاركت في برنامج تلفزيونيينتقل فيه مجموعة من المراسلين المعاقين بحافلة حول الولايات المتحدة لإجراءمقابلات مع الناس حول حياتهم وغيرُهم كثير.
فماذا عن هؤلاء الذين يعانون من تخلف شديد جدا؟
لقد استطاع عالم الاجتماع "دايفد جود" أن يقدم صورة داخليةلـ"كرستين" وهي متخلفة ذهنيا ومعاقة بدنيا. استطاع دايفد دخول عالمكرستين وفهم ما وراء سلوكها ووجد أنها تستجيب بحماس للإثارات الصوتية وخاصة النغمالموسيقي. كما أنها تستجيب للمس مُستخدمة لسانها للحصول على المعرفة عن العالمالخارجي. لقد استطاع ديفيد تأسيس علاقة جيدة بكرستين وكان يراها منتجة للمعنىوالثقافة.
كثير من الناس يخلط بين الشيزوفرينيا وتعدد الشخصيات. الشيزوفرينيااضطراب في العلاقة بين العالم الذاتي والعالم الموضوعي. فإذا كان المصاب به يشاهدالتلفاز مثلا، فإنه يظن أن المذيع يحدثه هو شخصيا. وأعراض الشيزوفرينيا: أفكار غيرمألوفة وهلوسة واضطراب في الأفكار وانخفاض القدرة على وضع خطط ومشكلات في التركيزوالذاكرة.
ومن أهم سمات المصاب به العنف الذاتي أي الانتحار.
وقد أظهرت الدراسات تقدما في فقدان المادة الرمادية في الدماغ حتى يصلإلى الفص الجبهي وهذا يؤثر في الادراك والتحكم في ردات الفعل. كما أنه يفقد نوع منخلايا الدماغ هي خلايا السلة وتمثل 10% من خلايا الدماغ إلا أنها تتحكم في الـ 90%الباقية.
سألخص جدا ما ذكره المؤلف هنا فهو يشير إلى دراسات أظهرت ارتباطات بينالتفكير الإبداعي والمصابين بالشيزوفرينيا في أصعب حالاتها. وعندما أقول التفكيرالإبداعي تنصرف الأذهان إلى أنواع مختلفة من الابداع والمؤلف أشار إلى الابداعالذي يجيده المصابون بالشيزوفرينيا ويصعب علي شرحه لأني بحاجة لقراءة في تلكالانواع من الابداع.
ثم ينتقل المؤلف إلى نقطة مهمة وعنوانها: الهجوم على العقلانية ويذكرأن كل اختلاف ذهني تحدث عنه في كتابه يعتبر اضطرابا لأنه ينتهك قيما أساسيةللثقافة الغربية المعاصرة وهذا ملمح مهم جدا. فما القيمة التي ينتهكها المصابونبالشيزوفرينيا؟ إنها العقلانية. فالهلوسة والوهم يهددان الترتيب الأساسي للأشياءفي الثقافة العقلانية. ويذكر المؤلف أن الشيزوفرينيا لم تكن مشكلة رئيسة إلى عهدالتنوير الفرنسي في القرن 18 عندما اصبحت العقلانية الأساس الفلسفي للمجتمع. وهناسأترجم ما نقله المؤلف عن "مايكل فكلت" في كتابه "الجنونوالحضارة" وهي عبارات أراها مهمة جدا. يقول أنه قبل التنوير " كانتالقوارب ترسل بضاعة الجنون من بلدة إلى بلدة. فكان المجانين يقودون حياة تجَوُّل.كانت البلدات تقودهم خارج حدودها ويُسمح لهم بالتجول في الريف المفتوح عندما لايُعهد بهم لمجموعة من التجار أو الحجاج." فما الذي حدث بعد ذلك أي في عصرالتنوير؟ يقول:" لن يتقدم الجنون من نقطة داخل عالمنا إلى نقطة وراءه فيرحلته الغريبة. لن يكون بعد الآن ذلك الحد الهارب والمؤكد." وقال كلمات بعدهذا صعُب علي ترجمتها بل فهمها. لا أقصد الترجمة الحرفية ولكن المعنى. والذي فهمتههو أن المستشفى حلت مكان السفينة. أحتاج لقراءة كتاب "الجنون والحضارة"لأفهم المزيد.